سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قلت: {خصمان}: صفة لمحذوف، أي: فريقان خصمان، والمراد: فريق المؤمنين، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل: اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد هنا: الجماعة، بدليل قوله: {اختصموا}؛ بالجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هذان خصمان} أي: مختصمان {اختصموا} أي: فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (راجع إلى أهل الأديان المذكورة)؛ فالمؤمنون خَصْمٌ، وسائرُ الخمسة خصمٌ، تخاصموا {في ربهم} أي: في شأنه تعالى، أو في دينه، أو في ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى، فكل فريق يصحح اعتقاده. ويُبطل اعتقاد خصمه. وقيل: تخاصمت اليهود والمؤمنون؛ فقالت اليهودُ: نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا، ونبيُّنا قبل نبيِّكم. وقال المؤمنون: نحن أحقُّ بالله منكم، آمنا بنبينا ونبيكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم كفرتم به؛ حسدًا. وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش، تبارَزوا يوم بَدر؛ حمزةُ وعليٌّ، وعبيدة بن الحارث، مع عتبة، وشيبة ابني ربيعةَ، والوليدُ. وقال عليّ رضي الله عنه: إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة؛ للخُصومة. اهـ.
ثم بيَّن الفصل بينهم، المذكور في قوله: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة}، فقال: {فالذين كفروا} بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، {قُطِّعَت لهم ثيابٌ من نار} أي فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم، تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب للبوس. وعبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه. {يُصَبُّ من فوق رؤوسهم الحميمُ} أي: الماء الحار. عن ابن عباس رضي الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. {يُصهَرُ}: يُذاب {به} أي: بالحميم، {ما في بطونهم} من الأمعاء والأحشاء، {والجلودُ} تذاب أيضًا، فيُؤثر في الظاهر والباطن، كلما نضجت جلودهم بُدلت. وتقديم ما في الباطن؛ للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس.
{ولهم مقامعُ من حديدٍ} أي: ولتعذيب الكفرة، أو لأجلهم، مقامع: جمع مقمعة، وهي آلة القمع، أي: سيَاط من حديد، يُضربون بها. {كُلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي: أشرفوا على الخروج من النار، ودنوا منه، حسبما رُويَ: أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وقوله: {من غَمّ}: بدل اشتمال من ضمير {منها}؛ بإعادة الجار، والعائد: محذوف، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها {أُعيدوا فيها} أي: في قعرها، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها، من غير أن يخرجوا منها، {و} قيل لهم: {ذُوقوا عذابَ الحريق} أي: الغليظ من النار، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر، وهم أهل الحق، فقال: {إن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار}، وغيَّر الأسلوب فيه، بإسناد الإدخال إلى الله عزّ وجلّ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد؛ إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين، {يُحلَّون فيها} من التحلية، وهو التزين، أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى {من أساورَ} أي: بعض أساور: جمع سوار، {من ذهبٍ} للبيان، أي يلبسون أساور مصنوعة من ذهب، {ولؤلؤًا}، من جَرَّهُ: عَطَفَهُ على {ذهب}، أو {أساور}، ومَنْ نَصَبَهُ: فعلى محل {من أساور}، أي: ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا، أو بفعل محذوف، أي: ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا.
{ولباسُهُم فيها حريرٌ}: أبريسِمْ، وغيَّر الأسلوب، فلم يقل: ويلبسون حريرًا؛ لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غَنِيُّ عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج للبيان: أيُّ لباس هو، بخلاف الأساور واللؤلؤ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات. انظر أبا السعود.
{وهُدُوا إِلى الطيب من القول}، وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله أو: الحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بدليل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فَاطِر: 10]. {وهُدُوا إِلى صراط الحميد} أي: المحمود، وهو الإسلام. أو: ألهمهم اللهُ في الآخرة أن يقولوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهداهم فيها إلى طريق الجنة. وقيل: إلى طريق الوصول إلى الله العزيز الحميد، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن في شأن الربوبية، فقال أهل الظاهر: الحق تعالى لا يُرى في دار الدنيا، ولا تُمكن معرفته، إلا من جهة الدليل والبرهان، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية: الحق تعالى يُرى في هذه الدار، كما يرى في تلك الدار، من طريق العرفان، على نعت الشهود والعيان، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية، فلا يزال يحاذيه ويسير به، حتى يقول: ها أنت وربك، فحينئذ تشرق عليه شموسُ العرفان، فتُغطى عنه وجود حس الأكوان، فلا يرى حينئذ إلا المكون، حتى لو كُلف أن يرى غيره لم يستطع؛ إذ لا غير معه حتى يشهده.
وقال بعضهم: (مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه). وفي مناجاة الحكم العطائية: «إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!». وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات.
ويقال له: ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.


قلت: خبر {إن}: محذوف، يدل عليه ما بعده، أي: الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم؛ لأنه إذا كان الملحِدُ في الحرم مُعَدَّبًا فالجامع بين الكفر والصد أَولى. ومن رفع {سواء} جعله خبرًا مقدمًا. و{العاكف}: مبتدأ. ومن نصبه: جعله مفعولَ {جعل}، و{العاكف} فاعل به.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين كفروا ويَصدون} الناس {عن سبيل الله}، أي: واستمروا على الصد، ولذلك حسن عطفه على الماضي، {و} يصدون أيضًا عن {المسجد الحرام} والدخول فيه، كأهل مكة مع المسلمين، {الذي جعلناه للناس} أي: مقامًا ومسكنًا للناس، كائنًا من كان، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي، وضعيف وقوي، حاضر وباد. فإن أُريد بالمسجد الحرام مكة، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع، وأن الناس فيها سواء، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها مِلك. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وغيره: ليست الدور فيها كالمسجد، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ. وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين. وهو مجمع عليه.
{سواءً العاكفُ فيه} أي: مستوٍ المقيم فيه {والباد}، أي: المسافر من أهل البادية، {من يُرِدْ فيه} أي: في المسجد، إحداث شيء {بإِلحادٍ} أي: بسبب ميل عن القصد، {بظُلم}، وهما حالان مترادفان، أي: ومن يرد فيه إحداث شيء؛ مائلاً عن الحق، ظالمًا فيه، {نذِقْهُ من عذابٍ أليم} في الآخرة. وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك.
{و} اذكر يا محمد {إِذْ بوّأنا}: حين هيأنا {لإبراهيم مكانَ البيت} وعيناه له، حتى بناه في مكانه مسامتًا للبيت المعمور، حيث كان بناه آدم عليه السلام، وقد كان رُفع إلى السماء الرابعة، أيام الطوفان، وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم اللهُ إبراهيم مكانه، بريح أرسلها، يقال لها: الخَجُوح، فكنست مكان البيت، وقيل: سحابة على قدر البيت، وقيل: كلمته، وقالت له: ابنِ على قَدري. اهـ. فبناه على أساسه القديم، وفي ابن حجر: أنه جعل طوله في السماء تسعة أذرع، ودوره في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعه. وأدخل الحِجْر في البيت، وكان قبل ذلك لغنم إسماعيل. وبنى الحجارة بعضها على بعض، أي: بلا تراب، ولم يجعل له سقفًا، وحفر له بئرًا، عند بابه خزانة للبيت، يُلقي ما يهدى له. اهـ.
رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات، إحداها: بنتها الملائكة، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رُفعت أيام الطوفان. والثانية: بناها إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن جُرهم كانت بنتها قبله، ثم هدمت، ويدل عليه: التجاء عادٍ إليها، حين نزل بهم القحط. فأرسل الله عليهم الريح، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام، والثالثة: بنتها قريش، وقد حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة.
والرابعة: بناها ابن الزبير، والخامسة: الحجاج.
ثم قال تعالى: {أن لا تُشرك} أي: وقلنا له: ألا تشرك {بي شيئًا}، بل خلص عملك في بنائها وغيره، من شوائب حظ النفس، عاجلاً وآجلاً، لا طَمَعًا في جزاء، ولا خوفًا من عقوبة، بل محبة وشكرًا وعبودية. قال القشيري: أي: لا تلاحظ البيت ولا بنيانك. اهـ. وقيل: في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت، أي: هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم، فلم تقبلوه، بل أشركتم وصددتم وألحدتم، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم.
{وطهِّرْ بيتيَ} من الأصنام والأقذار، {للطائفين} به {والقائمين} للصلاة فيه، أو المقيمين فيه، {والركَّع السجود} أي: المصلين، جمعًا من راكع وساجد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الذين كفروا بطريق الخصوصية، ويصدون الناس عن الدخول فيها، ويُعوقونهم عن مسجد الحضرة، الذي جعله للناس محلاً تسكن فيه قلوبهم، وتعشش فيه أرواحهم. فكل من قصده وباع نفسه وقلبه لله، وصله ودخله، وهو محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب، محل نزهة الأفكار في فضاء الشهود والاستبصار، فمن عاق عنها نُذقه من عذاب أليم. وقوله تعالى: {سواء العاكفُ فيه الباد}، قال القشيري: فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون في الطريق، وأما بعد الوصول، فلا تفاوت. ثم إذا اجتمعت النفوس، فالموضع الواحد مجمعها، ولكن لكلٍّ حالٌ يُعرف به. اهـ. قلت: مقام التوحيد الخاص، وهو الفناء، هو محل الاجتماع، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم، تفاوتًا بعيدًا، على حسب التفرغ والانقطاع، والتأهب والاتباع، حسبما سبقت به القسمة الأزلية.
وقال الورتجبي، على قوله تعالى: {وإذ بوأنا...} الآية: هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات، وما ألبسه من أنوار حضرته؛ ليكون وسيلة لعبادته، ومرآة لأنوار آياته. اهـ. قلت: الإشارة بالبيت إلى القلب؛ لأنه بيت الرب، أي: هيأنا لإبراهيم مكان قلبه؛ لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا، وقلنا له: لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى، ولا ترى معنا غيرنا، وطهِّر بيتي، الذي هو القلب، من الأغيار والأكدار، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفي بعض الأثر: «يا داود؛ طهر لي بيتًا أسكنه، فقال: يا رب... وأيُّ بيت يسعك؟ فقال: لم يسعني أرضي ولا سمائي. ووسعني قلب عبدي المؤمن». وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.


{وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ...}
قلت: {وعلى كل ضامر}: حال معطوفة على حال، أي: يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا. و{يأتين}: صفة لكل ضامر؛ لأنه في معنى الجمع. وقرأ عبد الله: {يأتون}، صفة لرجال. و{رجال}: جمع راجل؛ كقائم وقيام.
يقول الحقّ جل جلاله: لإبراهيم عليه السلام: {وأذِّن في الناس بالحج} أي: نادِ فيهم ليحجوا. رُوي: أنه عليه السلام صعد أبا قبيس، فقال: يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى الأرواح، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. {يأتوك} إن أذنت {رجالاً} أي: مشاةً {و} ركبانًا {على كل ضامر} أي: بعير مهزول، أتعبه بُعدُ الشُقة، فهزّله، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان؛ لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث {يأتين} تلك الضوامر بركبانها، {من كل فج}؛ طريق {عميق}؛ بعيد. قال محمد بن ياسين: قال لي شيخٌ في الطواف: من أين أنت؟ فقلت: من خُراسان. فقال: كم بينك وبين البيت؟ فقلت: مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال: فأنتم جيران البيت. فقلتُ: وأنت من أين سَعيت؟ فقال: من مسيرة خمس سنوات، وخرجت وأنا شاب، فاكتهلت. فقلت: هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة، والمحبة الصادقة، فضحك. وقال:
زُرْ مَن هَوَيْتَ وإن شطتْ بِكَ الدارُ *** وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته *** إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ
{ليشهدوا منافعَ لهم} أي: يأتوك ليحضروا منافع لهم، دنيوية ودينية، لا تُوجد في غير هذه العبادة؛ كالطواف ونظر الكعبة، وتضعيف أمر الصلاة؛ لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم، أو بالمال، وقد اشتمل الحج عليهما، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب، وهجرة البلاد والأوطان، ومفارقة الأهل والولدان. ولذلك ورد أنه يُكفر الذنوب كلها، كما في الحديث: «مَنْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجعَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
{ويذكروا اسمَ الله} عند ذبح الضحايا والهدايا {في أيام معدوداتٍ}، وهي أيام النحر عند مالك، وعند الشافعي: اليوم الأول والثاني والثالث؛ لأن هذه هي أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل؛ لقوله: {في أيام}. وقال أبو حنيفة: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة ويوم النحر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، وأما الأيام المعدودات، فهي: الثلاثة بعد يوم النحر- فيوم النحر معلوم لا معدود-، ورابعه: معدود لا معلوم، واليومان بعده: معلومان ومعدودان.
فيذكروا اسم الله {على ما رزقهم} أي: على ذبح ما رزقهم {من بهيمة الأنعام}، وهي الإبل والبقر والغنم، {فكُلُوا منها}؛ من لحومها، والأمر: للإباحة، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزي: ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا، ويتصدق بالأكثر. اهـ. وقال النسفي: ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران؛ لأنه دم نسك؛ لأنه أشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. اهـ. وهو حنفي، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
{وأطعموا البائسَ}، وهو الذي أصابه البؤس، أي: ضرر الحاجة، وقيل: المتعفف، وقيل: الذي يظهر عليه أثر الجوع، {الفقير}: المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
{ثم لْيَقْضُوا تَفَثَهم} أي: ليزيلوا عنهم أدرانهم، قاله نفطويه. وقيل: قضاء التفث: قصُ الشارب والأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، وسائر خصال الفطرة. وهذا بعد أن يُحلوا من الحج؛ التحلل الأصغر بالنحر. {ولْيُوفُوا نذورَهم} أي: ما ينذرونه من البر في الحج وغيره، وقيل: مواجب حجهم من فعل أركانه، {وليَطّوفوا} طواف الإفاضة، الذي هو ركن لا يُجبر بالدم، وبه يتم الحج، ويكون {بالبيت العتيق}: القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم ثم جدَّده إبراهيم، أو الكريم، ومنه: عتاق الخيل لكرائمها، أو: لأنه عتق من الغرق، أو من أيدي الجبابرة، فكم من جبار رام هدمه فمنعه الله منه. وقيل: عتيق لم يملكه أحد قطُّ، وهو مَطاف أهل الغبراء، كما أن البيت المعمور مطاف أهل السماء.
{ذلك} أي: الأمر ذلك، وهذا من فضل الكلام، كما يقدم الكاتبُ جملة من الكلام، ثم يقول: هذا، وقد كان كذا وكذا وكذا، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر، وإن كان له تعلق بما قبله. والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت، فقال: {ومن يعظِّم حُرمات الله}، جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولاً أوليًا، وقيل: حرمات الله: البيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وقيل: المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي، {فهو خيرٌ له} أي: فالتعظيم خير له ثوابًا {عند ربه}، ومعنى التعظيم: العلم بوجوب مراعاتها، والعمل بموجبه، والاهتمام بشأنه والتأدب معه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم}، قال القشيري: أي: حوائجهم، ويحققوا عهودهم، ويُوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فَمَنْ كان عقدُه التوبةَ؛ فوفاؤه ألاَّ يرجعَ إلى العصيان، ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ، فَشَرْطُ وفائه ترك تقصيره، ومن كان عهدُه ألاَّ يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلع إكرامٍ، فوفاؤه استقامته على الجملة، التي دخل عليها في هذه الطريق، بألا يرجع إلى استعجال نصيبٍ واقتضاءِ حظ. اهـ.
قلت: ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال: ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. اهـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان الإحرام يُحرم لحوم الصيد، فربما يتوهم أن اللحوم كلها تجتنب، رفعَ ذلك الإبهام، فقال: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأُحِلتْ لكم الأنعامُ} أي: أكلها، {إِلا ما يُتلىَ} أي: سيتلى {عليكم} منها في آية المائدة، كالميتة والموقوذة وأخواتهما. والمعنى: إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه، فحافظوا على حدوده، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم، كتحريم البحيرة وما معها، ولا تُحلوا ما حرَّم، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما.
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها، فقال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}؛ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله، و{من}: للبيان، أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والرجس: كل ما يستقذر من الخبث، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه، أي: فكما تنفرون بطباعكم من الرجس، فعليكم أن تنفروا عنها. والمراد: النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقربًا لها. {واجتنبوا قولَ الزُّور}، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور. وقيل: المراد شهادة الزور فقط، لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى» ثلاثًا، وتلى هذه الآية. والزور من الزّور، وهو الانحراف والميل؛ لأن صاحبه ينحرف عن الحق، ولا شك أن الشرك داخل في الزور؛ لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة، وهو باطل وزور.
ثم قال تعالى: {حنفاءَ لله}: مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق، مخلصين لله، {غير مشركين به} شيئًا من الأشياء، {ومن يُشرك بالله}، أظهر الاسم الجليل؛ لإظهار كمال قبح الشرك، {فكأنما خَرَّ}: سقط {من السماء} إلى الأرض؛ لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. وقيل: هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت، فتطرح من السماء إلى الأرض. قاله ابن البنا. {فتخطفه الطير} أي: تتناوله بسرعة، فالخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة؛ لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره، {أو تَهْوِي به الريحُ} أي: تسقطه وتقذفه. والهوى: السقوط. {في مكان سحيق}: بعيد؛ لأن الشيطان قد طرحه في الضلال والتحير الكبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: جعل الحقُّ تعالى شكرَ النعم أمرين: طهارة الباطن من شرك الميل إلى السِّوى، ولسانه من زور الدعوى، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها، حنيفًا موحدًا، شاكرًا لأنعمه يجتبيه ربه، ويهديه إلى صراط مستقيم. ومن يشرك بالله؛ بأن يُحب معه غيره، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات، وتهوي به ريح الهوى، في مكان سحيق. والعياذ بالله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8